شحوب الوجه، نظرة العينين المرهقة، تعابير باهتة أو غير معتادة… قد تبدو هذه التفاصيل بسيطة، لكنها في الواقع تحمل إشارات دقيقة عن الحالة الصحية للشخص. ووفقًا لدراسة علمية حديثة، فإن النساء يتمتعن بقدرة أعلى من الرجال على ملاحظة هذه العلامات غير اللفظية، مما يجعلهن أكثر كفاءة في التعرف على الأشخاص المرضى بمجرد النظر إلى وجوههم.
دراسة تكشف فروقًا دقيقة في الإدراك
أظهرت نتائج دراسة نُشرت في مجلة علمية متخصصة في علم النفس التطوري والسلوك الإنساني أن النساء يتفوقن بشكل طفيف، لكنه ذو دلالة إحصائية، في تمييز ملامح المرض على الوجوه مقارنة بالرجال. وتهدف هذه الدراسة إلى فهم كيفية اختلاف إدراك الرجال والنساء للإشارات الصحية غير اللفظية، خاصة تلك التي لا يمكن ملاحظتها بسهولة.
اعتمد الباحثون في دراستهم على عينة مكونة من 280 طالبًا وطالبة، تم تقسيمهم بالتساوي بين الجنسين. وطُلب من المشاركين تقييم مجموعة من الصور التي تُظهر وجوه أشخاص حقيقيين، بعضهم كان يعاني من مرض فعلي وقت التقاط الصورة، بينما كان آخرون يعانون فقط من التعب أو الإرهاق المؤقت.
معايير متعددة لتقييم الحالة الصحية
لم يقتصر التقييم على سؤال مباشر حول ما إذا كان الشخص يبدو مريضًا أم لا، بل شمل مجموعة من المعايير الدقيقة، مثل الصحة العامة المتصورة، مستوى اليقظة والانتباه، الإحساس بالأمان عند رؤية الشخص، مدى قابليته للتواصل الاجتماعي، إضافة إلى الانطباع العام حول حالته النفسية، كالسعادة أو التعب.
هذه المعايير سمحت للباحثين بفهم أعمق لكيفية تفاعل المشاركين مع الوجوه المعروضة، وما إذا كانوا يشعرون بالراحة أو النفور أو الحذر عند تخيل التعامل مع أصحاب تلك الوجوه.
النتائج: تفوق نسائي محدود لكنه مهم
أظهرت النتائج أن النساء كنّ أكثر حساسية تجاه العلامات الدقيقة التي تدل على المرض، مثل تغير لون البشرة، انخفاض تعبيرات الوجه، أو نظرات العينين. ورغم أن الفارق بين النساء والرجال لم يكن كبيرًا، إلا أنه كان ثابتًا ومتكررًا، مما جعله ذا دلالة علمية واضحة.
وبناءً على هذه النتائج، خلص الباحثون إلى أن النساء يمتلكن قدرة أعلى على قراءة الإشارات غير اللفظية المرتبطة بالحالة الصحية، وهو ما يساعدهن على التعرف على الأشخاص المرضى بشكل أسرع، حتى دون وجود أعراض واضحة أو معلومات مسبقة.
تفسير تطوري: دور المرأة عبر التاريخ
يحاول الباحثون تفسير هذه الظاهرة من خلال منظور تطوري. فمنذ آلاف السنين، اضطلعت النساء بدور أساسي في رعاية الأطفال والرضع، وهي فئة لا تستطيع التعبير بالكلام عن الألم أو المرض. لذلك، كان من الضروري تطوير قدرة عالية على ملاحظة التغيرات الدقيقة في السلوك أو المظهر، مثل قلة الحركة، تغير لون الوجه، أو فقدان التفاعل.
هذه المهارة كانت عاملًا حاسمًا في حماية الأطفال وضمان بقائهم، ومع مرور الزمن، قد تكون تحولت إلى سمة أكثر انتشارًا لدى النساء مقارنة بالرجال.
العوامل البيولوجية والمناعة
إلى جانب التفسير التطوري، تشير الدراسة إلى عامل بيولوجي مهم، وهو ما يعرف بـ”تجنب مسببات الأمراض”. فخلال مراحل مختلفة من حياة المرأة، مثل الحمل أو بعض مراحل الدورة الشهرية، يكون الجهاز المناعي أكثر عرضة للضعف المؤقت.
في مثل هذه الحالات، تصبح القدرة على التعرف السريع على الأشخاص المرضى وتجنب الاختلاط بهم أمرًا بالغ الأهمية. ويرى الباحثون أن النساء، نتيجة لهذه التغيرات البيولوجية المتكررة، تعرضن لضغوط انتقائية أكبر دفعت إلى تعزيز هذه القدرة الوقائية عبر الأجيال.
هل يعني ذلك أن الرجال أقل كفاءة؟
يشدد الباحثون على أن هذه النتائج لا تعني أن الرجال غير قادرين على التعرف على المرض، ولا أن جميع النساء يمتلكن هذه القدرة بنفس الدرجة. فالدراسة تتحدث عن فروق عامة بين المجموعات، مع وجود اختلافات فردية واسعة.
كما أن هذه القدرة قد تتأثر بعوامل أخرى، مثل الخبرة الشخصية، المهنة، البيئة الاجتماعية، ومستوى التعاطف، وليس فقط بالجنس البيولوجي.
دلالات أوسع في الحياة اليومية
تسلط هذه الدراسة الضوء على أهمية التواصل غير اللفظي في حياتنا اليومية، وكيف يمكن لملامح الوجه أن تنقل معلومات صحية دقيقة دون كلمات. كما تفتح الباب أمام فهم أعمق للفروق الدقيقة في الإدراك الاجتماعي بين الجنسين، خاصة في مجالات الرعاية الصحية، التعليم، والعمل الاجتماعي.
في النهاية، تُظهر هذه النتائج أن بعض المهارات الإنسانية التي نعتبرها بديهية أو فطرية هي في الواقع نتاج تفاعل معقد بين التطور، البيولوجيا، والتجربة الإنسانية. وتشير الدراسة إلى أن النساء، في هذا السياق المحدد، يتمتعن بميزة بسيطة لكنها مؤثرة في قراءة ملامح المرض، وهي قدرة لعبت دورًا مهمًا في تاريخ البشرية ولا تزال تؤثر في تفاعلاتنا اليوم.
